فصل: تفسير الآية رقم (1)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الماعون

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في العاص بن وائل السهمي وقال السدي ومقاتل بن حيان وابن كيسان‏:‏ في الوليد بن المغيرة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ في ‏[‏عمرو‏]‏ بن عائذ المخزومي‏.‏ وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ في رجل من المنافقين‏.‏

ومعنى ‏"‏يكذب بالدين‏"‏ أي بالجزاء والحساب‏.‏ ‏{‏فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ‏}‏ يقهره ويدفعه عن حقه والدعُّ‏:‏ الدفع بالعنف والجفوة‏.‏ ‏{‏وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه لأنه يكذب بالجزاء‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ عن مواقيتها غافلون‏]‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أخبرنا أبو جعفر محمد بن غالب بن تمام الضبي، حدثنا حَرَمِيّ بن حفص ‏[‏القَسْمَلّي‏]‏ حدثنا عكرمة بن إبراهيم الأزدي، حدثنا ‏[‏عبد الملك‏]‏ بن عمير عن مصعب بن ‏[‏سعد‏]‏ عن أبيه أنه قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ‏"‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏إضاعة الوقت‏"‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس، ويصلونها في العلانية إذا حضروا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ‏}‏ وقال في وصف المنافقين‏:‏ ‏"‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يُرَاءُون الناس‏"‏ ‏[‏النساء – 142‏]‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ساهٍ عنها لا يبالي صلَّى أم لم يصلّ‏.‏

وقيل‏:‏ لا يرجون لها ثوابًا إن صلُّوا ولا يخافون عقابًا إن تركوا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ غافلون عنها يتهاونون بها‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هو الذي إن صلاها صلاها رياًء، وإن فاتته لم يندم‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمون ركوعها وسجودها‏.‏ ‏{‏وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ روي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ هي الزكاة، وهو قول ابن عمر والحسن وقتادة والضحاك‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏"‏الماعون‏"‏‏:‏ الفأس والدلو والقِدْر وأشباه ذلك وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏"‏الماعون‏"‏ ‏[‏العارية‏.‏ وقال عكرمة‏]‏ أعلاها الزكاة المعروفة ‏[‏وأدناها عارية المتاع‏.‏

وقال محمد بن كعب والكلبي‏:‏ ‏"‏الماعون‏"‏‏:‏ المعروف الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم‏.‏

قال قطرب‏:‏ أصل الماعون من القلة، تقول العرب‏:‏ ما له‏:‏ سعة ولا منعة، أي شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونًا لأنه قليل من كثير‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏الماعون‏"‏‏:‏ ما لا يحل منعه مثل‏:‏ الماء والملح والنار‏]‏‏.‏

سورة الكوثر

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الحلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد 2 بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر عن المختار - يعني ابن فلفل - عن أنس قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظْهُرِنا إذ أغفى إغفاءةً ثم رفع رأسه مبتسمًا فقلنا‏:‏ ما أضحكك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أنزلت علي آنفا سورةٌ، فقرأ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ ‏"‏إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏أتدرون ما الكوثَرُ‏"‏‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏فإنه نهر وَعَدَنِيهِ ربي عز وجل عليه خيرٌ كثيرٌ هو حوض تَرِدُ عليه أمتي يومَ القيامة، آنِيَتُه عددُ النُّجومِ فَيُخْتَلَجُ العبدُ منهم فأقول‏:‏ ربِّ إنه مني، فيقول‏:‏ ما تدري ما أحدث بعدك‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏الكوثر‏"‏‏:‏ الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه‏.‏ قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير‏:‏ إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة‏؟‏ فقال سعيد‏:‏ النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه‏.‏

قال الحسن‏:‏ هو القرآن العظيم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ النبوة والكتاب‏.‏

وقال أهل اللغة‏:‏ الكوثر‏:‏ فَوْعل ‏[‏من الكثرة، كنوفل‏:‏ فَوْعَلَ‏]‏ من النفل والعرب تسمي كل شيء ‏[‏كثير في العدد أو‏]‏ كثير في القدر والخطر‏:‏ كوثرًا‏.‏ والمعروف‏:‏ أنه نهر في الجنة أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث‏:‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن ‏[‏علي‏]‏ الكشميهني، حدثنا علي بن حُجْر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا حُمَيْد عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ دخلتُ الجنةَ فإذا أنا بنهرٍ يجري بياضه ‏[‏بياض‏]‏ اللَّبَن وأحلى من العسل وحافَّتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أَذْفَرُ فقلت لجبريل‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال الكوثرُ الذي أعطاكه الله عز وجل‏:‏‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداوودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى الصَّلت، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الكوثر نهر في الجنة، حافَّتاهُ الذهبُ مجراه على الدر والياقوتُ تربته أطيبُ من المِسْكِ وأشدُّ بياضًا من الثلج‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا نافع ‏[‏بن عمر، عن‏]‏ ابن أبي مليكة قال‏:‏ قال عبد الله بن عمرو‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللَّبَن وريحه أطيب من المسك وكِيزَانُه كنجوم السماء، من يشرب منها لم يظمأ أبدًا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏[‏أناعند عُقْرِ حوضي‏]‏ أذود الناس عنه لأهل اليمن‏"‏ إني لأضربهم بعصاي حتى يرفضُّوا عنهُ ‏"‏وإنه ‏[‏لَيَغُتُّ‏]‏ فيه مِيزَابَانِ من الجنةِ، أحدهما من وَرِق والآخر من ذهب طوله ما بين بُصرى وصنعاء، أو ما بين أَيْلَةَ ومكة أو من مقامي هذا إلى عُمان‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ قال محمد بن كعب‏:‏ إن أناسا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل‏.‏

وقال عكرمة وعطاء وقتادة‏:‏ فصل لربك صلاة العيد يوم النحر وانحر نسكك‏.‏

وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ فصل الصلوات المفروضة بجَمْعٍ وانحر البُدْن بمِنىً‏.‏

وروي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏فصل لربك وانحر‏"‏ قال‏:‏ وَضْع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ‏}‏ عدوك ومبغضك ‏{‏هُوَ الأبْتَرُ‏}‏ هو الأقل الأذلُّ المنقَطِعُ دابره‏.‏

نزلت في العاص بن وائل السهمي؛ وذلك أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من ‏[‏باب‏]‏ المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المساجد فلما دخل العاص قالوا له‏:‏ من الذي كنت تتحدث معه‏؟‏ قال‏:‏ ذلك الأبترُ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي ابنٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال‏:‏ كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذِكْرُهُ، فأنزل الله تعالى هذه السورة‏.‏

وقال عكرمة عن ابن عباس‏:‏ نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش، وذلك أنه لما قَدِم كعبٌ مكة قالت له قريش‏:‏ نحن أهل السِّقَاية والسِّدَانة وأنت سِّيدُ أهل المدينة، فنحن خير أم هذا ‏[‏الصنبور‏]‏ المُنْبَتِر من قومه‏؟‏ فقال‏:‏ بل أنتم خير منه، فنزلت‏:‏ ‏"‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏"‏ ‏[‏النساء - 51‏]‏‏.‏ الآية، ونزل في الذين قالوا إنه أبتر‏:‏ ‏"‏إن شانئك هو الأبتر‏"‏ أي المنقطع من كل خير‏.‏

سورة الكافرون

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

نزلت في رهط من قريش منهم‏:‏ الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، ‏[‏والأسود‏]‏ بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف، قالوا‏:‏ يا محمد ‏[‏هلمَّ فاتبعْ‏]‏ ديننا ونتبع دينك ونشركُك في أمرنا كلِّه، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظَّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال‏:‏ معاذ الله أن أشرك به غيره، قالوا‏:‏ فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فقال‏:‏ حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏قل يا أيها الكافرون‏"‏ إلى آخر السورة، فَغَدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملاء من قريش، فقام على رءوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ في الحال ‏{‏وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ في الحال،

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 6‏]‏

‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ‏}‏ في الاستقبال، ‏{‏وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ في الاستقبال‏.‏

وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ أعبد‏"‏ أي‏:‏ مَنْ أعبد، لكنه ذكره لمقابلة‏:‏ ‏"‏ما تعبدون‏"‏‏.‏

ووجه التكرار‏:‏ قال أكثر أهل المعاني‏:‏ هو أن القرآن نزل بلسان العرب، وعلى مجاز خطابهم، ومن مذاهبهم التكرار، إرادة التوكيد والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز‏.‏

وقال القتيبي‏:‏ تكرار الكلام لتكرار الوقت، وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن سرَّك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة‏.‏ ‏{‏لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ الشرك ‏{‏وَلِيَ دِينِ‏}‏ الإسلام، قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص‏:‏ ‏"‏ولي‏"‏ بفتح الياء، قرأ الآخرون بإسكانها‏.‏ ‏[‏وهذه الآية منسوخة بآية السيف‏]‏‏.‏

سورة النصر

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ أراد فتح مكة‏.‏

وكانت قصته - على ما ذكر محمد بن إسحاق وأصحاب الأخبار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشًا عام الحديبية، واصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وأنه من أحب أن يدخل في عَقْد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عَقْد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خُزَاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بينهما شرٌّ قديم‏.‏

ثم إن بني بكر عَدَتْ على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة، يقال له ‏"‏الوَتِير‏"‏، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حتى بيَّت خزاعة، وليس كلٌ بكرٍ تابعه، فأصابوا منهم رجلا وتحاربوا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفيًا بالليل، حتى حازوا خزاعة إلىالحرم، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين‏:‏ صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، مع عبيدهم فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر‏:‏ يا نوفل إنا دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة‏:‏ إنه لا إله لي اليوم، ‏[‏يا بني بكر‏]‏ أصيبوا ثأركم فيه‏.‏

فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد بما استحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده - خرج عمرو بن سالم الخزاعيّ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظَهْراني الناس، فقال‏:‏

لا هم إني ناشِدٌ محمدًا *** حِلْفَ أبينا وأبيهِ الأتْلَدا

إن قريشا أخلَفُوكَ المَوْعِدَا *** ونقضوا ميثاقَك المؤكَّدا

الأبيات كما ذكرنا في سورة التوبة‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد نُصِرْت يا عمرو بن سالم‏"‏، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال‏:‏ ‏"‏إن هذه السحابة لتستهلّ، بِنَصْرِ بني كعب‏"‏، وهم رهط عمرو بن سالم‏.‏

ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ‏[‏وبمظاهرة‏]‏ قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس‏:‏ كأنكم بأبي سفيان قد جاء لِيَشُدَّ العَقْدَ ويزيد في المدة‏.‏

ومضى بديل بن ورقاء فلقي أبا سفيان بعُسْفَان، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَشُّدَ العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بُدَيْلا قال‏:‏ من أين أقبلت يا بُدَيْل‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي، قال‏:‏ أو ما أتيت محمدا‏؟‏ قال‏:‏ لا فلما راح بُدَيْل إلى مكة قال أبو سفيان‏:‏ لئن كان جاء المدينة لقد علف ناقته بها النوى، فعمد إلى مَبْرك ناقته فأخذ من بعرها فَفَتَّه فرأى فيه النوى، فقال‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بُدَيْلٌ محمدًا‏.‏

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال‏:‏ يا بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم أرغبت به عني‏؟‏ قالت‏:‏ بلى هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ والله لقد أصابك يا بُنَيَّة بعدي ‏[‏شيء‏]‏ ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئًا ‏[‏غير أنه قال‏:‏ نقض أهل مكة العهد‏]‏‏.‏

ثم ذهب إلى أبي بكر فكلَّمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر ابن الخطاب فكلَّمه فقال‏:‏ أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏ فوالله لو لم أجد إلا الذرَّ لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعنده فاطمة بنت رسول لله صلى الله عليه وسلم وعندها الحسن بن علي رضي الله عنهما، غلامٌ يَدِبّ، بين يديها، فقال‏:‏ يا علي إنك أمسّ، القومِ بي رحمًا وأقربُهم مني قرابةً، وقد جئت في حاجةٍ فلا أرجعن كما جئت، خائبًا، اشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ويحك يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال‏:‏ يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير بين الناس فيكون سيدِّ العرب إلى آخر الدهر‏؟‏ قالت‏:‏ والله ما بلغ بُنَيّ أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، فقال‏:‏ يا أبا الحسن - إني أرى الأمور قد اشتدَّت عليَّ فانصحني، قال‏:‏ والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأَجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال أوترى ذلك مغنيًا عني شيئا‏؟‏ قال‏:‏ لا والله، ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك‏.‏

فقام أبو سفيان في المسجد فقال‏:‏ يا أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ جئت محمدًا فكلمته والله ما رد عليَّ شيئًا ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيرًا، فجئت ابن الخطاب فوجدته أَعْدَى القوم، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيٍء صنعتهُ، فوالله ما أدري هل ‏[‏يغنيني‏]‏ شيئًا أم لا‏؟‏ قالوا‏:‏ وماذا أمرك‏؟‏ قال‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا‏:‏ فهل أجاز ذلك محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لا قالوا‏:‏ والله إن زاد عليٌّ على أن لعب بك، فلا يغني عنَّا ما قلت، قال‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك‏.‏

قال‏:‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجَهَازِ، وأمر أهله أن يجهِّزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي لله عنها وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أي بنية أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تجهزوه‏؟‏ قالت‏:‏ نعم فتجهَّزْ، قال‏:‏ فأين ترينه يريدُ‏؟‏ قالت‏:‏ ما أدري‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال‏:‏ اللهم خُذِ العيونَ والأخبار عن قريش حتى ‏[‏نَبْغَتَها‏]‏ في بلادها، فتجهز الناس‏.‏

وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ كتابًا إلى قريش ‏[‏- وفيه قصة‏]‏ ذكرناها في سورة الممتحنة -‏.‏

ثم استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا رُهْم كلثومَ بن حُصَيْن بن خلف الغفاري، وخرج عامدًا إلى مكة لعشر مَضَيْنَ من رمضان سنة ثمان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد - ماء بين عُسْفَان وأمَجّ - أفطر‏.‏

ثم مضى حتى نزل بمرِّ الظَّهْران في عشرة آلاف من المسلمين، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، فلما نزل بمر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو فاعل، فخرج في تلك الليلة‏:‏ أبو سُفْيَان بن حَرْب، وحكيم بن حِزَامٍ وبُدَيْلُ بن ورقاء، يتحسسون الأخبار هل يجدون خبرًا‏؟‏ وقد قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذٍ‏:‏ وَاصباحَ قريش، والله لئن ‏[‏بغتها‏]‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلادها فدخل مكة عنوة إنها لهلاك قريش إلى آخر الدهر‏.‏

فخرج العباس على بغلة رسول الله وقال‏:‏ أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطَّابًا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيستأمنونه قبل أن يدخلها عليهم عنوة‏.‏

قال العباس فخرجت وإني - والله - لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر، فسمعت أبا سفيان يقول‏:‏ والله ما رأيت كالليلة قطُّ نيرانًا، وقال بديل‏:‏ هذه والله نيران خزاعة ‏[‏حَمَشَتْها‏]‏ الحرب، فقال أبو سفيان‏:‏ خزاعة ألأمُ من ذلك وأذلُ فعرفت صوته فقلت‏:‏ يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال‏:‏ يا أبا الفضل، فقلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ مَالَك فداك أبي وأمي‏؟‏ قلت‏:‏ ويحك يا أبا سفيان هذا، والله، رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قِبَل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين، قال‏:‏ وما الحيلة‏؟‏ قلت‏:‏ والله لئن ظفر بك ليَضْرِبَنَّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنهُ فردفني، ورجع صاحباه فخرجت أركض به بغلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا‏:‏ هذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عَجُزِ الدابة، قال‏:‏ أبو سفيان عدو الله‏!‏

الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم اشتدَّ نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فركضتُ البغلة وسبقته بما تسبق الدابةُ البطيئةُ الرجلَ البطيء، فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر، فقال‏:‏ يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني فلأضرب عنقه، فقلت‏:‏ يا رسول الله إني قد أَجَرْتهُ، ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه وقلت‏:‏ والله لا يناجيه الليلة أحدٌ دوني، فلما أكثر فيه عمر رضي الله عنه قلت‏:‏ مهلا يا عمر، فوِالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدِّي بن كعب ما قلت هذا‏.‏ قال‏:‏ مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، ‏[‏وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم‏]‏، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اذهب به يا عباس إلى رَحْلِك، فإذا أصبحتَ فَأْتِنِي به‏"‏، قال‏:‏ فذهبت إلى رَحْلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال‏:‏ ‏"‏ويحك يا أبا سفيان ‏[‏ألم يَأْنِ‏]‏ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏!‏ والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره فقد أغنى عني شيئا بعدُ، قال‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ بأبي أنت وأمي وما أحلمك وأكرمك وأوصلك‏!‏ أما هذه فإن في النفس منها ‏[‏حتى الآن‏]‏ شيئًا، قال العباس‏:‏ قلت له‏:‏ ويحك‏!‏ أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قبل أن يضرب عنقك، قال‏:‏ فشهد شهادة الحقِّ وأسلم، قال العباس‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا، قال‏:‏ نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمِنْ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمِنْ، ومن دخل المسجد فهو آمِنْ، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا عباسُ احبِسْه، بمضيق الوادي عند خَطْم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها، قال‏:‏ فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ومرَّت به القبائل على راياتها، كلما مرتْ قبيلة قال‏:‏ من هؤلاء يا عباس‏؟‏ قال‏:‏ أقول‏:‏ سليم، قال يقول‏:‏ مالي ولِسُلَيْمٍ، ثم تمر القبيلة فيقول‏:‏ من هؤلاء‏؟‏ فأقول‏:‏ مُزَيْنَة، فيقول‏:‏ مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل لا تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته يقول‏:‏ مالي ولبني فلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء، كتيبة رسول الله، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال‏:‏ سبحان الله من هؤلاء يا عباس‏؟‏ قلت‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال‏:‏ والله ما لأحدٍ بهؤلاء من قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا، فقال‏:‏ ويحك‏!‏ إنها النبوة، قال‏:‏ نعم إذًا‏.‏

فقلت‏:‏ الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد بأعلى صوته‏:‏ يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبلَ لكم به، قالوا‏:‏ فمه‏؟‏ قال‏:‏ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا‏:‏ ويحك وما تغني عنا دارك‏؟‏ قال‏:‏ ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‏.‏

قال‏:‏ وجاء حَكيمُ بن حزام وبُدَيْلُ بن ورقاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران فأسلما وبايعاه، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى قريش يَدْعُوَانهم إلى الإسلام‏.‏

ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند النبي صلى الله عليه وسلم عامدين إلى مكة بعث في إثرهما الزبير وأعطاه رايته وأمَّره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحُجُون، وقال‏:‏ لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيَك، ومن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وضربت هناك قبته، وأمر خالد بن الوليد فيمن أسلم من قضاعة وبني سليم أن يدخل من أسفل مكة وبها بنو بكر قد استنفرتهم قريش وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش، أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، وإن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وكانوا قد جمعوا أناسًا بالخَنْدَمَة ليقاتلوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد والزبير حين بعثهما‏:‏ لا تقاتلا إلا من قاتلكم، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدي، فقال سعد حين توجه داخلا اليوم يوم المَلْحَمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحرمةُ، فسمعها رجل من المهاجرين فقال‏:‏ يا رسول الله، اسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب‏:‏ أدركه فخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها، فلم يكن بأعلى مكة منْ قِبَل 2 الزبير قتال، وأما خالد بن الوليد فقدم على قريش وبني بكر والأحابيش بأسفل مكة، فقاتلهم فهزمهم الله، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك‏.‏

وقتل من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له‏:‏ سلمة بن الميلاء، من خيل خالد بن الوليد، ورجلان يقال لهما‏:‏ كُرْزُ بن جابر ‏[‏وخُنَيْس‏]‏ بن خالد، كانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه وسلكا طريقًا غير طريقه، فقتلا جميعا‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا أحدًا إلا من قاتلهم، إلا ‏[‏أنه قد عهد‏]‏ في نفرٍ سماهم أمر بقتلهم، وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة‏.‏ منهم‏:‏ عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتد مشركًا، ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيَّبه حتى أتى به ‏[‏رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن أهل مكة، فاستأمن له‏.‏

وعبد الله بن خَطَل، كان رجلا من بني تميم بن غالب‏]‏، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلمًا فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقًا، وكان له مولى يخدمه وكان مسلمًا، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسًا ويصنع له طعامًا ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركًا، وكانت له قَيْنَتَان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه‏.‏

والحُوَيْرث، بن ‏[‏نُقَيْذ‏]‏ بن وهب، كان ممن يؤذيه بمكة‏.‏

ومِقْيَس بن صبابة، وإنما أمر بقتله، لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ ورجوعه إلى قريش مرتدًا‏.‏ وسارة؛ مولاة كانت لبعض بني المطلب كانت ممن يؤذية بمكة‏.‏

وعكرمة بن أبي جهل، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أُمُّ حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنَتْ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم‏.‏

وأما عبد الله بن خطل، فقتله سعد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة، فقتله تُمَيْلَةُ بن عبد الله، رجل من قومه، وأما قَيْنَتَا ابن خطل؛ فقُتِلْت إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنها، وأما سارةُ فتغيبت حتى استؤمن لها فأمنها، فعاشت حتى أوطأها رجلٌ من الناس فرسًا له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها، وأما الحويرث بن نقيذ، فقتله علي بن أبي طالب‏.‏

فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف قائمًا على باب الكعبة وقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مَأْثُرَةٍ أو دم أو مالٍ في الجاهلية يدعى فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سَدَانة البيت وسقاية الحاج، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نَخْوَة الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم وآدم خُلق من تراب، ثم تلا ‏"‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏"‏ ‏[‏الحجرات - 13‏]‏ الآية، يا أهل مكة، ماذا ترون أني فاعل بكم‏؟‏ قالوا‏:‏ خيرًا، أخ كريم وابن أخٍ كريم، قال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاء فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء‏.‏

ثم اجتمع الناس للبيعة؛ فجلس لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء‏.‏

قال عروة بن الزبير‏:‏ خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب الجمحي‏:‏ يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيّدُ قومي، وقد خرج هاربًا منك ليقذف نفسه في البحر، فَآمِّنْهُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو آمن، قال‏:‏ يا رسول الله أعطني شيئًا يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدةُ وهو يريد أن يركب البحرُ فقال‏:‏ يا صفوان فداك أبي وأمي أذكركَ الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به، فقال‏:‏ ويلك اغرب عني فلا تكلِّمني، قال‏:‏ أي صفوان فداك أبي وأمي، أفضلُ الناس وأبرُ الناس، وأحلمُ الناس، وخيرُ الناس، ابن عمك عِزُّه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك‏.‏ قال‏:‏ إني أخافه على نفسي، قال‏:‏ هو أحلم من ذلك وأكرم، فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان‏:‏ إن هذا يزعم أنك أمَّنْتَنِي‏؟‏ قال‏:‏ صدق، قال فاجعلني في أمري بالخيار شهرين، قال‏:‏ أنت فيه بالخيار أربعة أشهر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، وكان فتح مكة لعشر ليال بَقِينَ من رمضان سنة ثمان، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة ‏[‏يقصر‏]‏ الصلاة‏.‏ ثم خرج إلى هوازن وثقيف، قد نزلوا حنينا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، أن خزاعة قتلوا رجلا‏.‏ ‏.‏ ‏"‏ وقال محمد بن إسماعيل، قال عبد الله بن رجاء‏:‏ حدثنا حرب عن يحيى، حدثنا أبو سلمة ‏"‏حدثنا أبو هريرة‏:‏ أنه عامَ فتحِِ مكةَ قتلتْ خزاعة رجلا من بني لَيْث بقتيلٍ لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله حبس عن مكة الفيل وسلطَّ عليهم رسوله والمؤمنين‏.‏ ألا وإنها لم تَحِلَّ لأحد قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، ألا وإنها أحِلَّتْ لي ساعةَ من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه، حرام لا يُخْتَلى شوكها ولا يُعْضَدُ شجرُها، ولا يَلتقِط ساقطتَها إلا منشدٌ، ومَنْ قُتِل له قتيلٌ فهو بخير النظر إما يؤدَّى وإما أن يقاد فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال‏:‏ اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اكتبوا لأبي شاه ثم قام رجل من قريش فقال‏:‏ يا رسول الله إلا الإذْخِرَ فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إلا الإذخر‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن أبي النضر - مولى عمر بن عبيد الله - أن أبا مرّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب تقول‏:‏ ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، قالت‏:‏ فسلَّمتُ، فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا أم هانئ بنت أبي طالب، قال‏:‏ مرحبًا بأم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلّى ثماني ركعات مُلْتَحِفا في ثوب واحد، ثم انصرف فقلت له‏:‏ يا رسول الله، زعم ابن أمي، علي بن أبي طالب، أنه قاتلٌ رجلا أجَرْتُه، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد أجَرْنَا من أجرتِ يا أمَّ هانئٍ، وذلك ضحى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ إذا جاءك نصر الله يا محمد على من عاداك وهم قريش، ‏{‏وَالْفَتْحُ‏}‏ فتح مكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا‏}‏ زُمرًا وأرسالا القبيلة بأسرها، والقوم بأجمعهم من غير قتال‏.‏

قال الحسن‏:‏ لما فتح الله عز وجل مكة على رسوله قالت العرب بعضها لبعض‏:‏ إذا ظفر محمد بأهل الحرم - وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل - فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجًا بعد أن كانوا يدخلون واحدًا واحدًا، واثنين اثنين‏.‏

وقال عكرمة ومقاتل‏:‏ أراد بالناس أهل اليمن‏:‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن الكشميهني حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبًا وأرق أفئدة الإيمان والحكمة يمانية‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ فإنك حينئذ لاحقٌ به‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ كان عمر يُدْخِلني مع أشياخ بدر قال بعضهم‏:‏ لِمَ تُدْخِل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله‏؟‏ فقال‏:‏ إنه ممَّن قد علمتم، قال‏:‏ فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال‏:‏ وما رأيته دعاني يومئذ إلا لِيُرِيَهم مني، فقال‏:‏ ما تقولون في قوله‏:‏ ‏"‏ إذا جاء نصر الله والفتح‏"‏ حتى ختم السورة‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم‏:‏ لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي‏:‏ يا ابن عباس أكذلك تقول‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فما تقول‏؟‏ قلت‏:‏ هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به، ‏"‏إذا جاء نصر الله والفتح‏"‏ فتح مكة، فذلك علامة أجلك ‏"‏فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏"‏، فقال عمر‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تعلم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏"‏ يتأوَّل القرآن‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عبد الأعلى، حدثنا داود عن عامر، عن مسروق، عن عائشة؛ قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ من قول‏:‏ ‏"‏سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه‏"‏، قالت‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أراك تكثر من قول‏:‏ ‏"‏سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه‏؟‏ فقال‏:‏ أخْبَرَني ربي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتَها أَكْثِرْ من قول‏:‏ سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها‏:‏ ‏"‏إذا جاء نصر الله والفتح‏"‏‏.‏ فالفتح‏:‏ فتح مكة، ‏"‏ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا‏"‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه السورة علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نُعيتْ إليه نفسه‏.‏

قال الحسن‏:‏ أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم له بالزيادة في العمل الصالح‏.‏

قال قتادة ومقاتل‏:‏ عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين‏.‏

سورة المسد

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حماد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ صَعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فقال‏:‏ يا صاحباه، قال‏:‏ فاجتمعت إليه قريش، فقالوا له‏:‏ مالَكَ‏؟‏ قال‏:‏ أرأيتم لو أخبرتُكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدِّقوني‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فإني نذيرٌ لكم بين يديْ عذاب شديد، فقال أبو لهب‏:‏ تبًّا لك، ألهذا دعوتنا جميعًا‏؟‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏تبت يدا أبي لهب وتب‏"‏ إلى آخرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ‏}‏ أي‏:‏ خابت وخسرت يدا أبي لهب، ‏[‏أي هو‏]‏، أخبر عن يديه، والمراد به نفسه على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏اليد‏"‏ صلة، كما يقال‏:‏ يد الدهر ويد الرَّزايا والبلايا‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بها ماله وملكه، يقال‏:‏ فلان قليل ذات اليد، يعنون به المال، و‏"‏الثياب‏"‏‏:‏ الخسار والهلاك‏.‏

وأبو لهب‏:‏ هو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى‏.‏ قال مقاتل‏:‏ كني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏"‏أبي لهب‏"‏ ساكنة الهاء، وهي مثل‏:‏ نهر ونهر‏.‏ واتفقوا في ‏"‏ذات لهب‏"‏ أنها مفتوحة الهاء لِوفَاقِ الفواصل‏.‏

‏{‏وَتَبَّ‏}‏ أبو لهب، وقرأ عبد الله‏:‏ وقد تب‏.‏ قال الفرَّاء‏:‏ الأول دعاء، والثاني خبر، كما يقال‏:‏ أهلكه الله، وقد فعل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 4‏]‏

‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرباءه إلى الله عز وجل قال أبو لهب‏:‏ إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإني أفتدي نفسي ومالي وولدي، فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ‏}‏ أي ما يغني، وقيل‏:‏ أي شيء يغني عنه ماله، أي‏:‏ ما يدفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، وكان صاحب مواشٍُ ‏{‏وَمَا كَسَبَ‏}‏ قيل‏:‏ يعني ولده، لأن ولد الإنسان من كسبه كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه، وإن ولده من كسبه‏"‏‏.‏ ثم أوعده بالنار فقال‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ أي نارًا تلتهب عليه‏.‏ ‏{‏وَامْرَأَتُه‏}‏ أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ‏{‏حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ قال ابن زيد والضحاك‏:‏ كانت تحمل الشوك والعضاة فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابهُ لتعقرهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس‏.‏

وقال قتادة، ومجاهد، والسدي‏:‏ كانت تمشي بالنميمة وتنقل الحديث فتلقي العداوة بين الناس، وتوقد نارها كما توقد النار ‏[‏بالحطب‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ فلان يحطب على فلان، إذا كان يُغْرِي به‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ حمالة الخطايا، دليله‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم‏"‏ ‏[‏الأنعام - 31‏]‏‏.‏

قرأ عاصم ‏"‏حمالة‏"‏ بالنصب على الذم، كقوله‏:‏ ‏"‏ملعونين‏"‏‏.‏

وقرأ‏.‏ الآخرون بالرفع، وله وجهان‏:‏ أحدهما سيصلى نارًا هو وامرأته حمالةُ الحطب‏.‏ والثاني‏:‏ وامرأته حمالةُ الحطب في النار أيضًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏فِي جِيدِهَا‏}‏ في عنقها، وجمعه أجياد، ‏{‏حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ‏}‏ واختلفوا فيه، قال ابن عباس، وعروة بن الزبير‏:‏ سلسلة من حديدٍ ذَرْعُها سبعون ذراعًا، تدخل في فيها وتخرج من دبرها، ويكون سائرها في عنقها، وأصله من ‏"‏المسْد‏"‏ وهو الفتل، و‏"‏المَسَدُ‏"‏ ما فُتِل وأحكم من أي شيء كان، يعني‏:‏ السلسلة التي في عنقها ففتلت من الحديد فتلا محكمَا‏.‏

وروى الأعمش عن مجاهد‏:‏ ‏"‏من مسد‏"‏ أي من حديد، والمسد‏:‏ الحديدة التي تكون في البَكَرَةِ، يقال لها المحور‏.‏

وقال الشعبي ومقاتل‏:‏ من ليف‏.‏ قال الضحاك وغيره‏:‏ في الدنيا من ليف، وفي الآخرة من نار‏.‏ وذلك الليف هو الحبل الذي كانت تحتطب به، فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة فأعيت فقعدت على حجر تستريح فأتاها ملك فجذبها من خلفها فأهلكها‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ حبل من شجر ينبت باليمن يقال له مسد‏.‏

قال قتادة‏:‏ قلادة من ودع وقال الحسن‏:‏ كانت خرزات في عنقها ‏[‏فاخرة‏]‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كانت لها قلادة في عنقها فاخرة، فقالت‏:‏ لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

سورة الإخلاص

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ روى أبو العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى هذه السورة‏.‏

وروى أبو ظبيان، وأبو صالح، عن ابن عباس‏:‏ أن عامر بن الطفيل وأَرْبَدَ بن ربيعةَ أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر‏:‏ إلامَ تدعونا يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ إلى الله، قال‏:‏ صِفْهُ لنا أمن ذهب هو‏؟‏ أم من فضة‏؟‏ أم من حديد‏؟‏ أم من خشب‏؟‏ فنزلت هذه السورة فأهلك الله أربد بالصاعقة وعامر بن الطفيل بالطاعون، وقد ذكرناه في سورة الرعد‏.‏

وقال الضحاكُ وقتادة ومقاتل‏:‏ جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ صِفْ لنا ربك يا محمد لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو‏؟‏ وهل يأكل ويشرب‏؟‏ ومن يرث منه‏؟‏ فأنزل الله هذه السورة‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ أي واحد، ولا فرق بين الواحد والأحد، يدل عليه قراءة ابن مسعود‏:‏ قل هو الله الواحد‏.‏ ‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهدُ والحسنُ وسعيد بن جبير‏:‏ ‏"‏الصمد‏"‏ الذي لا جوف له‏.‏

قال الشعبي‏:‏ الذي لا يأكل ولا يشرب‏.‏

وقيل‏:‏ تفسيره ما بعده، روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال‏:‏ ‏"‏الصمد‏"‏ الذي لم يلد ولم يولد؛ لأن من يولد سيموت، ومن يرث يورث منه‏.‏

قال أبو وائلِ شقيقُ بن سلمة‏:‏ هو السيد الذي قد انتهى سُؤدَده، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال‏:‏ هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد‏.‏ وعن سعيد بن جبير أيضا‏:‏ هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله‏.‏ وقيل‏:‏ هو السيد المقصود في ‏[‏الحوائج‏.‏ وقال السدي‏]‏ هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، تقول العرب‏:‏ صمدت فلانًا أصمده صمْدًا - بسكون الميم - إذا قصدته، ‏[‏والمقصود‏]‏‏:‏ صمَد، بفتح الميم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏"‏الصمد‏"‏ الباقي بعد فناء خلقه‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏"‏الصمد‏"‏ الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي‏.‏ وقال الربيع‏:‏ الذي لا تعتريه الآفات‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ الذي لا عيب فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏(‏3‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ قرأ حمزة وإسماعيل‏:‏ ‏"‏كفْؤًا‏"‏ ساكنة الفاء مهموزا، وقرأ حفص عن عاصم بضم الفاء من غير همز، وقرأ الآخرون بضم الفاء مهموزًا، وكلها لغات صحيحة، ‏[‏ومعناه‏]‏ المثل، أي‏:‏ هو أحد‏.‏

وقيل‏:‏ هو التقديم والتأخير، مجازه‏:‏ ولم يكن له أحدًا كفوًا أي مثلا‏.‏

قال مقاتل‏:‏ قال مشركو العرب‏:‏ الملائكة بنات الله، وقالت اليهود‏:‏ عزير ابن الله، وقالت النصارى‏:‏ المسيح ابن الله، فأكذبهم الله ونفى عن ذاته الولادة والمثل‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرنا أبو الزناد، عن الأعراج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال الله تعالى‏:‏ كذَّبني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشَتَمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيايَ فقولهُ‏:‏ لن يعيدني كما بدأني، وليس أولُ الخلق بأهونَ عليّ من إعادته، وأما شتمُهُ إياي فقوله‏:‏ اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سمع رجلا يقرأ‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد‏"‏ ويرددها، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده إنها لتَعْدِل ثُلُثَ القرآن‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن الأصفهاني، أخبرنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة عن قتادة‏:‏ سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أيعجز أحدكم أن يقرأ ثُلثَ القرآن في ليلةٍ‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ومن يطيق ذلك‏؟‏ قال‏:‏ اقرأوا قل هو الله أحد‏"‏‏.‏

واخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبيد بن جبير مولى زيد بن الخطاب أنه قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ أقبلت، مع رسول الله فسمع رجلا يقرأ ‏"‏قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏"‏، فقال رسول الله‏:‏ ‏"‏وجبْت‏"‏، فسألته‏:‏ ماذا يا رسول الله‏؟‏

فقال‏:‏ ‏"‏الجنة‏"‏‏.‏ فقال أبو هريرة‏:‏ فأردت أن أذهب إلى الرجل فأبشره، ثم فرقت أن يفوتني الغداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآثرت الغداء، ثم ذهبت إلى الرجل فوجدته قد ذهب‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المبارك بن فضالة عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أحبُّ هذه السورة‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد‏"‏‏:‏ قال‏:‏ ‏"‏حبُّكَ إياها أدخلَك الجنة‏"‏‏.‏

سورة الفلق

مدنية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ قال ابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهما -‏:‏ كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏فدبت‏]‏ إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأسِ النبي صلى الله عليه وسلم وعدَّة أسنانٍ من مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وتولى ذلك لَبِيدُ بن الأعْصمِ، رجل من يهود، فنزلت السورتان فيه

أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا محمد بن عبد الله بن ‏[‏عبد الحكم‏]‏ أخبرنا أنس بن عياض عن ‏[‏هشام‏]‏ عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ طُبَّ حتى أنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئًا وما صنعه، وأنه دعا ربه، ثم قال‏:‏ أَشَعَرْت أن الله تعالى أَفْتانِي فيما استفتيته فيه، فقالت عائشة‏:‏ وما ذاك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رِجْلَيَّ، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ مَا وَجَعُ الرَّجُل‏؟‏ قال الآخر‏:‏ هو مَطْبُوب قال‏:‏ من طبَّه‏؟‏ قال لَبِيدُ بن الأعْصَمُ قال‏:‏ في ماذا‏؟‏ قال‏:‏ في مُشْطٍ ومُشَاطة وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قال‏:‏ فأين هو‏؟‏ قال‏:‏ في ذَرْوَانَ - وذروان بئر في بني زُرَيْقٍ - قالت عائشة‏:‏ فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى عائشة، فقال‏:‏ والله لكأن ماءها نُقَاعةُ الحِنَّاء، ولكأن نخلها رءوسُ الشياطين، قالت‏:‏ فقلت له‏:‏ يا رسول الله هلا أخرجتَه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أما أنا فقد شفاني الله، فكرهت أن أثير على الناس به شرا‏"‏‏.‏

وروي أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جُفَّ الطلعة، فإذا فيه مشاطة رأسه، وأسنان مشطه

أخبرنا المطهر بن علي الفارسي، أخبرنا محمد بن إبراهيم الصالحاني، حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الحافظ، أخبرنا ابن أبي عاصم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان بن أرقم قال‏:‏ سَحَرَ النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، قال‏:‏ فاشتكى لذلك أيامًا، قال‏:‏ فأتاه جبريل، فقال‏:‏ إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة، فقام رسول الله كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهود ولا رأوه في وجهه قط‏.‏

قال مقاتل والكلبي‏:‏ كان في وتر عُقِد عليه إحدى عشرة عقدة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت العُقَد، مغروزة بالإبرة، فأنزل الله هاتين السورتين وهما إحدى عشرة آية؛ سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، كلما قرئت آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال‏.‏

وروي‏:‏ أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاث ليال، فنزلت المعوذتان‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا بشر بن هلال الصواف، حدثنا ‏[‏عبد الوارث‏]‏ حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد‏:‏ أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد اشتكيتَ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ ‏"‏بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك والله يشفيك‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ أراد بالفلق‏:‏ الصبح وهو قول جابر بن عبد الله والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وأكثر المفسرين، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، بدليل قوله ‏"‏فالق الإصباح‏"‏‏.‏

وروي عن ابن عباس‏:‏ إنه سجن في جهنم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ واد في جهنم‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ يعني الخلق، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، والأول هو المعروف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 3‏]‏

‏{‏مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏(‏2‏)‏ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ‏}‏ أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا جعفر بن محمد المغلس، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب، عن ‏[‏خاله‏]‏ الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة عن عائشة قالت‏:‏ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فنظر إلى القمر فقال‏:‏ ‏"‏يا عائشة، استعيذي بالله من شر غاسق إذا وقب‏.‏ هذا غاسق إذا وقب‏"‏‏.‏

فعلى هذا‏:‏ المراد به‏:‏ القمر إذا خسف واسودَّ ‏"‏وَقَبَ‏"‏، أي‏:‏ دخل في الخسوف وأخذ في الغيبوبة ‏[‏وأظلم‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏"‏الغاسق‏"‏‏:‏ الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق ودخل في كل شيء وأظلم، و‏"‏الغسق‏"‏‏:‏ الظلمة، يقال غسق الليل ‏[‏وأغسق‏]‏ إذا أظلم، وهو قول الحسن ومجاهد، يعني الليل إذا أقبل ودخل و‏"‏الوقوب‏"‏‏:‏ الدخول، وهو دخول الليل بغروب الشمس‏.‏

قال مقاتل‏:‏ يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار‏.‏

وقيل‏:‏ سمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، والغسق‏:‏ البَرْد‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ‏[‏يعني‏]‏ الثريا إذا سقطت‏.‏ ويقال‏:‏ إن الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ‏(‏4‏)‏ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ‏}‏ يعني السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏ يعني ‏[‏اليهود‏]‏ فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

سورة الناس

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏(‏1‏)‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏(‏2‏)‏ إِلَهِ النَّاسِ ‏(‏3‏)‏ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ‏(‏4‏)‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ‏(‏5‏)‏ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ‏}‏ يعني الشيطان، يكون مصدرًا واسمًا‏.‏

قال الزجاج‏:‏ يعني‏:‏ الشيطان ذا الوسواس ‏"‏الخناس‏"‏ الرجاع، وهو الشيطان جاثم على قلب الإنسان، فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس‏.‏ ويقال‏:‏ رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يُمنِّيهِ ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر رجع فوضع رأسه، فذلك‏:‏ ‏{‏الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ‏}‏ بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع‏.‏ ‏{‏مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏ يعني يدخل في الجني كما يدخل في الإنسي، ويوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، قاله الكلبي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏في صدور الناس‏"‏ أراد بالناس‏:‏ ما ذكر من بعد، وهو الجِنّة والناس، فسمى الجن ناسا، كما سماهم رجالا فقال‏:‏ ‏"‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن‏"‏ ‏[‏الجن - 6‏]‏‏.‏

وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث جاء قوم من الجن فوقعوا، فقيل‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ أناس من الجن‏.‏ وهذا معنى قول الفراء‏.‏

قال بعضهم‏:‏ أثبت أن الوسواس للإنسان من الإنسان كالوسوسة للشيطان، فجعل ‏"‏الوسواس‏"‏ من فعل الجِنَّة والناس جميعا، كما قال‏:‏ ‏"‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن‏"‏ ‏[‏الأنعام - 112‏)‏ كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس جميعا‏.‏

أخبرنا إسماعيل ‏[‏بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر‏]‏ بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير عن بيان عن قيس بن أبي حازم، عن عقبة بن عامر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قط‏:‏ ‏"‏قل أعوذ برب الفلق‏"‏ و ‏"‏قل أعوذ برب الناس‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم العدل، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو العباس بن الوليد بن مرثد، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ المتعوذون‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏"‏قل أعوذ برب الفلق‏"‏ و ‏"‏قل أعوذ برب الناس‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا قتيبة، حدثنا المفضل بن فضالة عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما، فقرأ فيهما‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد‏"‏ و ‏"‏قل أعوذ برب الفلق‏"‏ و ‏"‏قل أعوذ برب الناس‏"‏ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده‏.‏ يفعل ذلك ثلاث مرات‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتهما‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي وأبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي قالا حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري، أخبرنا محمد بن أحمد بن معقل الميداني، أخبرنا محمد بن يحيى، حدثنا بعد الرازق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي حازم عن يزيد، يعني ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما أذِنَ الله لشيء ما أذِنَ لنبيِّ حسن الصوت يتغنىَّ بالقرآن يجهر به‏"‏‏.‏

‏.‏ تم‏.‏